الاثنين، 9 فبراير 2009

قصة قصيرة: ما فات شهرزاد من حكايات

استوسد زند شهرزاده، وضع الجانب الأيمن من رأسه على الزند البض، وأغمض عينيه، قال لها: يا شهرزادي، النهر يعطي الطمي للفقراء، سيغصون بالوحل، من لهؤلاء الفقراء؟!
أغمضت شهرزاد عينيها، تسترجع القول، الفقراء، من أين جاء بالكلمة هذا القاتل، فقراء، الـ.. فقرااااء، نطقتها أكثر من مرة، ومطّت الكلمة مضيفة ألفات كثيرة قبل أن تقف على الهمزة، كأن حجرا سدّ مدخل الحلق، ردد صوتها كالصدى: نعم الفقراء، لهم الطمي في قاع النهر، أتعرفين، أنه أكثر خصوبة؟، لكنهم يحلمون بالسمكة التي في بطنها خاتم سليمان، أو حتى أرزه.
بحث في عيني شهرزاده عن ألق ظنّه وهو يقول سليمان، ردّدّ الإسم مرة أخرى،لم يكن شهريار يقصد سليمان النبي، الذي تعرفه بلقيس حين كشفت عن ساقيها عند دخولها القصر الممرد، والذي أعاد إليها هديتها لترى بما يرجع المرسلون، شهريار لديه سليمان الممتلك لخاتم اشتهر بفصّه، يلمع بألوان تقبّل أشعّة الشمس في كل وقت وحين، وتستقبل القمر في المساءات.. له أشكال تتبدل، بالليل لها مرأى وفي النهار لها ألق، في زحمة الطمي لم يتذكر الفقراء إلا خاتم سليمان وأرزه "الباسمتي".
كان زند شهرزاد طريا، له رائحة الياسمين الأبيض ولونه اللؤلؤي الذي يلهب جمر شهريار، مرة رآه سليمان فأحرق قلب شهريار بالنظرة، ودّ لو قطع زند شهرزاده، وعنق سليمانه، لكن للزند فوائده، وللعنق سطوته، نظر في مسائه القلق إلى صورته تعكسها مرآة بركة الماء، وأيقن أن الزند لم يخطىء كما أن العين لا تلام.
قصد سليمان، التاجر، القصر وفي جبّته فكرة مفرحة يلقيها بين يدي شهريار، كان زند شهرزاد متوسّدا من الجانب الأيمن لشهريار حين طرق الباب الكبير، واقف وراءه الرجل الذي يلبس جبّة تحتها فكرة مفرحة، غطى شهريار الزند الأبيض الذي لم يخطىء في المرة السابقة خشية من العين التي لم تلام من قبل..
- يا مولاي الملك، جئتك بفكرة أن تصبح أغنى رجل على وجه الكرة الأرضية، سيسمونك ملك الملوك، وبأموالك ستجعل صورة الدبابة التي دخلت بها القصر حصانا أبيض، والدماء التي غطت وجه النهر يوم أن حدثت المذبحة قصة حلوة يحكيها الكبار لصغارهم قبل النوم، لن يتذكروا أنك المنقلب على ولي نعمته، سيرونك المخلّص لكل آلام البشرية، أما الفكرة...
- جئني بها سريعا، وإلا فإن السياف مسرور يحوم حول من يحاول خداع الملك، لكأنك تذكر الدبابات والمذابح دون خوف.
- فدتك الروح يا مليكي، لذا جئتك بما يجعلك الأفضل بين ملوك الدنيا، تجعلني على خزائنك لتنمو، أضم إليها خزائني فتكبر، ولك كل الحصاد، ولا أرجو إلا رضاك ورأسمال خزائني.
- لا آمنك، ولكني سأجعلك وزيرا ، ولتكن وزيرا للتجار، فإن أحسنت سلمتك خزائن البلاد، وإن أحسنت أكثر سلمتك خزائني.
- هذا هو لبّ الفكرة ومنتهاها، خزائني ملآى بالحبوب، والناس لا يحبّون أكل الطمي، إنما عشقهم لما يملأ بطنهم.
- لا تجعل شعبي يجوع أكثر، سيأكلون خزائنك إن خنقهم الجوع، إن أجعتهم سأرميك للجوعى.
ومنذ أن غادر سليمان التاجر القصر الشهرياري أصبح أهم مخلوق على ظاهر المدينة، في الشهر الأول فاض الخبز من الأفواه، وفي الشهر التالي نقص عدد الأرغفة عن سابق عهدها، علا صوت الفقراء، وصاحوا : الأفواه تزيد والأرغفة تنقص، بئس البلاد يا شهريار..
- يامليكي، إنما هو جشع الفقراء، ألا ينامون على شبع؟
- أعد إليهم ذات العدد كي لا أنقص من عمرك أياما.
ومرّ شهر، امتلأت الأفواه فلم يصدر منها صوت، ثم تناقصت دائرة الرغيف، يصغر قليلا فقليلا، لم يعد الرغيف الواحد يملأ الفم، والفم قابل لإطلاق الصوت إن فرغ من محتوى ما فيه.
- يا مليكي، إن الفقراء مصابون بضعف النظر، أنظروا إلى الرغيف كيف أن استدارته كأنه صينية، والفقراء لا يشبعون، إنهم يتناسلون يا مليكي أكثر مما تفعل الحبوب، في كل سنبلة مائة حبة، وفي كل حارة ألف طفل.
- لن أسلمك خزائن البلاد وأنت تسرق خزائن الحبوب.
- لا تصدق الفقراء يا مليكي، الفقراء يكذبون، الفقراء يكرهون الأغنياء.
تعاقبت السنوات، والجوعى يتخاطفون اللقمة، كلما زاد تاجر في البلاد ظهر مائة فقير فيها، وتزايدت الأقوال، فلا ينقص رغيف خبز في "تنور" البلاد إلا قيل أن سليمان باعه لحسابه الخاص، أو أنه خشي على فص خاتمه أن يتأثر بحرارة التنور فيبهت لونه ويذهب بريقه، زاد عدد التجار في البلاد، وعدّ هذا من أفضال السماء على بلاد شهريارستان.
خمسة من أبناء سليمان أصبحوا تجارا، واخوة سليمان وأعمامه وأخواله أمسوا ممسكين على القوافلة الرائحة والغادية في رحلتي الشتاء والصيف، وتكاثرت الخواتم على الأصابع حتى لا يكاد المرء يتخيل نفسه صائدا لسمكة دون أن يتوقع فيها خاتم سليمان أو أحد أقاربه.
سألته العجوز الواقفة في طابور الخبز عمّا حل بالبلاد وأتعب العباد فأقفرت الأرض وشح الأكل، فأشاح وجهه عنها، رافعا صوته وهو مدبر أن الأكل سيأتي وسيتعقب التجار الجشعين، فقط عليها أن تكون مواطنة صالحة تكف عن التذمر وتحزم معدتها قليلا لتخف وزنها الزائد، وتبتعد عن الماركات الرفيعة لتقتصد، وعليها أن لا تقلد الكبار فيما يأكلون، وتتشبه بالصغار فيما يضرسون.
فتعقّبها رجال شهريار يفتّشون في ذاكرتها القديمة بحثا عن سوء الظن، فلم يجدوا إلا كوابيسها تترصّدهم من جدار إلى جدار..
- سترخص البضاعة، وسأضرب بيد من حديد على التجار الجشعين.
- لكنهم أهلك يا سليمان.
- سأبدأ بأهلي، وسأهددهم بالويل والثبور وعواقب الأمور.
- ولكنهم أهلك يا سليمان.
- سأبدأ بنفسي، وسأفتح "هايبر ماركت" ضخم جدا جدا، من أجل الفقراء، سأوفر لهم سلال كبيرة ليحملوا فيها بضاعتهم، وآلة عجيبة تقرأ السعر، وبطاقات يدفعون بها، ومن لا يمتلك الآن سيدفع غدا.
.. وحين توسّد شهريار زند شهرزاده البض لاحت له البلاد بأصواتها تتلو عليه حكايات لم تبح بها هذه الأنثى من قبل، ستحتاج إلى مليون ليلة وليلة لتلقمه حكاياتها، الطمي في النهر يثقل الماء، وسليمان يكدّس فصوص خواتمه كأنه يمنع بها جريان الحياة.
- يا مليكي، دمت بأمان، خزائن الحبوب في قصرك بها من الطعام ما يكفيك ألف عام، أطال الله عمرك، وعمر كل من تحب.
- لكن صياح الجوعى يأتيني..
- إنما هو صياح الشكر يا مليكي، يحمدونك، ويشكرونك.
- لكنه يأتيني كالصراخ..
- تكدّست الحبوب عليهم، فآذتهم، جعلت من عائلتي فداء لهذه البلاد، لهم بين البيت والآخر متجرا، ومن لا يدفع اليوم له حق التأجيل.
.. وقبل أن يأذن البطن بالصياح.. أقبل الصباح، فنام شهرزاد دون الطعام المباح..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق