الاثنين، 20 أبريل 2009

تداعيات

حرية.. في النادي الثقافي:
ما حدث البارحة وما قبلها في النادي الثقافي تأكيد على أنه لا مصادرة للفكر، وأن هامش الحرية متوفر، وأن الدرس الديموقراطي يسير في طريقه الصحيح ليتمكن من الحلول بسلاسة في الحالة الاجتماعية وهي تتدرج في سياق الحركة الطبيعية واكتشافاتها للحرية، لم تكن ربكة التجربة حاضرة بقسوة كالتي كان يمكن حضورها لو أقيمت هذه الندوة قبل سنوات قلائل، الندوة تحتاج إلى وقفة بعد الوقوف على نقاشاتها.. برويّة.

خيران.. سياحية:
وتحت أعمدة السقف المختلف للحرية، بما لا يخدش المصلحة (العليا) للوطن، ولا المصلحة (الصغرى) للأشخاص يمكنني طرح التالي:
كل تلك التغطية الصحفية لتدشين سفينة!!.. كل ذلك الحضور الرسمي لمشروع تكلفته مليون ريال (حسب البيان الرسمي) ولن تشغّله الحكومة!!.. ولمشروع تأخر كثيرا وسبقتنا إليه حتى الدول العربية الموسومة بالتأخر دوما، ذلك فقط لرؤية الأحياء البحرية تحت سطح الماء.. ماذا لو دشّنّا مشروع استكشاف الفضاء؟!

هبات.. وفتات:
هل يحق لرئيس مجلس إدارة شركة (مساهمة عامة) رفع راتبه ليكون أكبر من راتب وزير، وتوزيع (الهبات) كيفما يشاء، فيما هناك مساهمون يعطون (الفتات) كأرباح نهاية السنة؟ والسؤال الأصعب: من يملك حق المنح؟ وحق الرفض؟ وحفظ حقوق المساهمين؟!
حدث في أمريكا: شركات مفلسة حصل (كبارها) على مكافآت، ولأن (الغرب) قدوة حسنة في الطالح قبل الصالح فاقتنص (أرباب) الشركات المساهمة خاصة (السمينة) الفرصة وأخذوا ما أخذوا فيما تهبط الأسهم نحو القاع، فكيف بشركات تحقق أرباحا (نهاية العام المالي) وتسقط أسعار أسهمها في الحضيض (كل يوم)؟!

التكرار.. يفيد القراء:
صحفنا تتابع الحركة الثقافية والفنية باهتمام:
خبر صادر من جمعية الكتاب أو أسرة القصة أو النادي الثقافي فيتكرر بالنص في جميع الصحف، مع صورة الشخصية المناسبة للحدث، وهكذا يتحول خبر أمسية إلى حدث كبير.. (صناعة إعلامية زائدة عن الحد لكنها مطلوبة لتسويق نجوم الكلمة).
وخبر صادر من الفنان نفسه، يتصل بالمحرر الذي تربطه علاقة معه، يسرد عليه (طلعاته وخرجاته) وما فعله اليوم وما سيفعله في الغد وما يمكن أن يقوم به بعد سنوات!!).

وأخيرا.. جسر سمائل:
قبل نحو عام كتبت في تشاؤلي عن جسر على وادي سمائل، يومها قالت الجهة الرسمية أنني بعيد عن الواقع، ومنذ ذلك التاريخ بقي عشرون مترا عصية على الرصف على حلق الجسر، أما الأهم فهو أن وادي سمائل لم يكذّب تشاؤل ابنه، وبجريان عادي له غصّ حلق (المثاعيب) التي دافعت عنها (الجهة المعنية) وارتدّ الماء إلى مزارع المواطنين.
بعد عامين من العمل في مسافة طولها بضع مئات من المترات عاد المشروع إلى مشكلته الأساسية، عدم كفاية (العبّارات الصندوقية) لعبور مياه الوادي، وتجزئتها للولاية مع أن الحل لم يكن مستحيلا، إنما يحتاج إلى مسئول يعترف أنه أخطأ في تقديراته، ويستلزم ذلك الرجوع عنها، فلا حاجة لاعتراف بالخطأ.. ولا لاستقالته كما يحدث في بلدان العالم المتحضرة.

تمسجوا وترجموا

عذرا لأرباب اللغة على هذا النحت الممجوج في (عربيتنا) التي عرّيناها حتى أنها لا تحتاج إلى دخول النوادي الصحية لتحصل على المساج أو وصفة الريجيم البادئة بتمارين شد البطن.. والمؤخرة، مع أن الحصول على جسد جميل لا يحتاج حتما إلى ناد صحي، بل إلى إرادة تحقق فعلين اقتصاديين مهمّين في معركتنا مع الأزمة المالية العالمية:
التوفير حينما نخفّض فاتورة الغذاء المستهلك، وتوفير رسوم اشتراك في ناد صحي، حيث تنتفي حاجتنا حرق السعرات الحرارية الفائضة نتيجة تناول كميات من الغذاء لا يحتاجها الجسم أصلا، فلا حاجة للمرء لا لأندية صحية.. ولمراكز صحية!!
طالبة عمانية فازت بجائزة وزارة التربية والتعليم (حقائق من الحياة) عن بحثها الذي يتناول مرض الإيدز، ومع عاديّة البحث فإن أهم نقطة تجرأت عليها هي توصيتها بإغلاق مراكز المساج أو حسب اللفظ التجاري (النوادي الصحية) مع أنها تأخذ الصحة، والكلام ليس تعميما.. ولكن من باب (اتقوا الشبهات).
في عرف السمعة فإن السيئ يسحب الجيّد إلى دائرته وليس العكس، هذا ما يحدث في النوادي الموسومة بالصحة، رديئها يعمم سمعته على الباقي فتعم الشبهات وعلى من يريد إثبات براءته عليه التمسك بكل الحيل الممكنة.
يقول البحث أن النوادي الصحية بلغت في مسقط نحو 200 ناد، وهذا مدعاة للشك أكثر من أنها تدفع لليقين، فكم نسبة المحتاجين لهذه الأندية، خاصة المتعاملة مع المساج (على أيدي الخبرات التايلندية والصينية).
ليست الحالة عمانية الهوية والهوى، فدول المنطقة أغلبها عانى من سطوة أندية المساج على الحالة الجسدية للمتمدد، إذا أراد إزاحة الرغبة عن كاهله فإن الأمر بسيط ومتاح، بضعة ريالات وينتهي الأمر في دقائق، وهناك أندية (في دول مجاورة) قامت بتصوير الداخلات إليه بالفيديو.. كانت (الفضيحة بجلاجل) كما تقول المسلسلات العربية!
أما بلدية مسقط فتدخلت أخيرا وقالت أنه يمنع الاختلاط في الأندية الصحية، خطوة موفقة، تأخرت لكنها أتت.. والسؤال: هل حقا أن جميع من يذهب لتلك الأندية يريد (المساج) فقط، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
والمعضلة أنه لا يمكن التعامل بسوء الظن مع مثل هذه الأماكن، فهناك تواطؤ بين عارض الخدمة والمستفيد منها، وحينما يشتد ربط الحزام الناسف على الجسد الفتي فإن ضرورات نزع الفتيل تكون الخيار الأحب الذي يصوّره إبليس على أنه ضرورة لا مناص منها.
لو اشترطت بلدية مسقط بحرمان طالبي المساج من الأيدي الناعمة من المرور على عضلاتهم (النشطة والذابلة) فهل سنجد 200 مكان يكثر فيها طلب الراحة الجسدية.. والكلمة خاضعة لتفسيرات عدة، قد لا يجرّمها القانون، لأنها تتحايل عليه بكل بساطة.
فمن يملك الحل لكي لا نجد أماكن (بغاء) ترتدي مسميات حديثة، ومن سيقنع المترددين على تلك (المشبوهات) بأن الأصابع الناعمة قد تترك ما لا يمكن علاجه على الجسد الشاب؟!
تلك عقدة بالغة التعقيد، بانتظار حل.. لا يحل.

تشاؤل أخير:
في بحثها رأت الطالبة أن المساج باعث على الدخول في الأخطر.. إذن ماذا عن المسجات؟.. فالحكاية كلها مسجات ومساج.. وسقوط سياج!!

أجنحة عمان

مطار مسقط يتوسع قليلا..
تأخر الوقت عليه كثيرا.
لكن، ومثلما نكرر دوما: أن تأتي الأشياء متأخرة خير أن لا تأتي أبدا، أي أننا في أضعف الايمان، وقد كان بالامكان أفضل بكثير مما كان.. وما سيكون!!
الطيران العماني يتوسع كثيرا، لا مفر إلا أن يكبر ويتوسع، والاستثمار في الناقل الرسمي واجب، وما دفعناه في طيران الخليج (المتعثر) لا يقاس بما يمكن أن ندفعه إلى ناقلنا الوطني، وهو المستحق للدعم، وللدفع به.. من مجرد طيران محلي صغير إلى ناقلة كبرى تستحق أن تكون إحدى الخيارات المناسبة لمن يرغب في السفر، وعنوانا مهما في مفكرة المسافرين في أجواء الدنيا.
شركة طيران رأسمالها 50 مليون ريال لا يمكن تصوّره في عصر لا يكفي فيه المبلغ لشراء طائرة من النوع المحترم، علما أن خسائر الشركة العام الماضي بلغت 42 مليون ريال، أي أن الخسائر تقارب التسعين بالمائة من رأسمال الشركة، وهذه بررها وزير الاقتصاد الوطني بأنها ناتجة عن التوسع وشراء طائرات جديدة تنضم للأسطول الذي لا يمكن القول بأنه كذلك طالما أنها بضع طائرات لا تليق بشركة طيران تقع في منطقة تضج بشركات عملاقة، وتعمل بمنهجية اقتصادية ربحية همّها الحصول على كعكة مشبعة في سوق ينمو باستمرار، حتى وهو يواجه الأزمة المالية العالمية هذا العام، ولسعته أسعار الوقود العام الماضي.
وكانت خطوة جريئة، وموفقة، وشجاعة.. أن ينال الطيران العماني هذا الاهتمام من الحكومة لاستثمار سوق السفر الصاعد بقوة في عالم اقتصاديات اليوم، وناقلنا الوطني مهيأ لأخذ مكانة جيدة في هذا العالم مع الأخذ في الاعتبار أن التوسع الكبير ستكون كوارثه أكبر في موازاة الأمل بعوائد أكثر، فالمنافسة المشتدة تشبه صراع الأسماك في باطن البحر، الكبيرة تأكل الصغيرة، والتي موازناتها المليارات ولديها استثمارات جانبية ضخمة تمتلك قدرة فائقة على النهوض من غرف العناية الفائقة فيما لو ضربت الأزمات قطاع الطيران، كما حدث خلال العامين الماضيين.
يواجه الطيران العماني، حتى وهو يتحرك برأسمال يبلغ 300 مليون ريال، تحديات أشار إليها معالي أحمد مكي، وهي ليست خافية على العارفين بأمور الطيران والسفر، لكن التخطيط الجيد والفكر الواعي قادر على تجاوز الحالات الصعبة، والإدارة السليمة هي الضمانة الأولى في السير بخطوات متوازنة وقادرة على تحقيق الأهداف، ليس الوطنية فحسب، بل الاقتصادية أيضا، ولا يمكن أن تبقى الحكومة (الصرّاف) الجاهز للدفع كما كان الأمر مع طيران الخليج، والتي يبدو أننا خرجنا منها خاليي الوفاض، ومن منطق الشفافية تم التكتم على مصير حصة السلطنة البالغة نصف الشركة العملاقة.. إلا إذا كان الأمر حزمة واحدة.. احتساب الموجودات والديون في سلتين متعادلتين، أو ربما أمر آخر!!
طيراننا مستحق للدعم والوقوف معه، وهو مطالب بأن يسمع أيضا ما يقوله زبائنه عنه، يرصد سمعته في سوق تعتمد على السمعة.
أما التزامنا الطيران العماني فهو قضية وطنية، الأهم: أن لا تترك هذه الناقلة لمفهوم الموظف الحكومي الذي يتحرك بمنطق أن الخسارة واردة، والحكومة ستدفع، بل أن الربح هو الأساس، وتقديم الدعم للمجتمع يمثل شراكة واستثمارا وليس خسارة، وبمبادرات بسيطة لصالح المجتمع سيكتسب هذا الناقل صفة (الوطني)، ولكن بمفهوم لا ضرر ولا ضرار.

الأحد، 12 أبريل 2009

ما أغرب الدنيا.. ما أغربنا

تصيبنا أخبار الدنيا بهوس نفسي يجعلنا ننظر للحياة بطرف مريب، وتباعد بيننا وما درجنا عليه من بساطة تلقي وسهولة تفكير وسلاسة عيش، خاصة نحن الذين لم نعرف العالم من حولنا إلا في سنوات متأخرة من عمر الطفولة، فنحن كنا جيل المحطة التلفزيونية الواحدة المحكومة بهوائي لا يلتقط سوى صورة غائمة، ونسمع عن الحاسوب كما يسمع أطفال اليوم عن السفر للفضاء.
ما يحدث من عوالم غريبة نتلقاها ليل نهار، عبر وسائل الإعلام والتكنولوجيا، تكسر ذلك اللوح الزجاجي المصنوع في حياتنا من لدائن غضة، فتزيد الهوّة بين عالم افتراضي يعود بنا دوما إلى منازل الخطوة الأولى (كما أسماها الشاعر سيف الرحبي) وبين عالم واقعي يسير سلكيا ولاسلكيا بين الشريان والشريان، فتبدو كغريب أحاطت به قبائل الزولو في غابة أفريقية موحشة، أيدي رجال القبيلة ممسكين بالسهام كما تحيطنا الأخبار الغريبة تماما، متصورين في أية لحظة أن سهما ما سينطلق من خابية أحدهم ويصيبنا في مقتل.
كم منّا يشعر بالغربة والاغتراب حتى وهو داخل بيته؟
نواجه شاشة كبيرة لديها القدرة على بث 500 قناة تلفزيونية، وعليك أن تختار.. فتحتار ماذا تفعل إزاء كل ذلك الهجوم الكوني عليك، تشتكي من وقت الفراغ، لا بأس، هناك قنوات تتنقل بك بين ما يهم الدين، وما يهم شقاوتك، تشتكي من وزنك الزائد فلا تقلق، افتح أية جريدة من تلك التي تصل إلى باب بيتك مجانا وستجد عشرات المراكز والعيادات الجاهزة لإضعاف الرقم الذي يقلق جسدك، كما ستجد الخلطات والأجهزة التي تعيد إليك شبابك بما يحقق السعادة الزوجية (كما تقول الإعلانات) وستحاصرك الأخبار والإعلانات والفضائيات والرسائل النصية والرنّات الهاتفية وستغدو كما قال الشاعر الباخرزي: (فما هو فيما رام إلا كباسط/ إلى الماء كفيه ليبلغ فاه).. وما هو ببالغ من أمره شيئا.
نشعر دوما بتناقض غريب، تناقض الآخرين، تناقضاتنا الداخلية، وتلك الممارسة مع الحياة، نوسّع الفجوة أكثر حينما لا نتغيّر حجة الحرص على المبادىء، لا نفرّق كثيرا بين ما هو مبدأ، وما هو ثقافة، تماما كما يحدث في علاقتنا مع الأشياء المرتبطة بالدين والتقاليد.
ثورة الحياة من حولنا تزلزل تقاليدنا بقوة، نريد أن ندخل بوابات التقنيات التكنولوجية لكن كوابح التربية بكل ثقلها تزيد من حدة اغترابنا، نقول أن المشاعر ليس لها مكان في عالم اليوم، مع أن مركّباتنا قائمة على مجموعة لا تحصى من العواطف والمشاعر، لا نملك أن نكون حياديين تجاه الآتي من فضاء يدور حولنا، أرض تدور بنا..
على الصفحات الأولى للصحف ما يثير القلق والخوف من تداعيات الحروب وهواجس الأمراض وقلق الحصول على ماء وغذاء، وفي الصفحات الأخيرة ما يدعو للاكتئاب، غرائب تحدث كأنها ليست حياتنا، النجوم الذين يشترون منازلهم بملايين الدولارات والفقراء الذين لا يجدون مأوى، الكلاب التي تأكل الأغذية الفاخرة والمشردون الذين يموتون جوعا، العلم الذي يتوصل لنوع مرعب من السلاح والعلم العاجز عن علاج السرطان.
تقلب الصفحات من حولك، تتجول في صفحة حياتك، تودّ لو تكتب فيها المزيد من الكلمات، قد لا تتسع المساحة الفارغة فيها، قد لا تمتلك الحبر اللازم.. أو ربما ليس لديك القدرة لكتابة أي جديد..
حينها ستطاردك الغربة أكثر، تود لو تسافر، لكنك لا تملك من أدوات السفر شيئا.. حتما ستسافر إلى داخلك، لعلك تكتشف أن عالما بداخلك أجمل من العالم الذي حواليك.


مسجات:

من أولي..
أصعد إلى آخر تخومك
صحرائي الممتدة دون سراب.
من آخر،
أعود متيمما بالماء
وأبكي على صدر الكلمات.

##

كان المطر كالأنثى
يضع تمائمه
وكانت الطفولة تغني
كي يعطي الغيم آخر جواباته للعاصفة.
تساقط البرد غيمتي
وأنا دون مطرك، أترقب مواسمي
تفيض بك، نصفي الأول..
أكتمل بك.
يانصفي المكتمل، بي.

##

حين أزاح الجدران من حوله..
رآها أنثى من عطر
كان لا يشعر بها،
سوى امرأة من عناد.
كم احتاج ليحطم الحواجز
كي يراها؟
كان يبني طرقا إليها.

##

البيت يلوّح للعصافير لتحلم
على نوافذه.
تحتاج إلى ما يدفعها
كي تقف، وتغني، على النوافذ
أكثر من اليد الملوّحة..
الأمان.
كل العصافير في الدنيا، تحتاج إليه.

إنهم يستغلون وظائفهم..

آثار البليد بدت كتحفة متمددة بزهو على البحر، قادمة من تاريخ يدعونا للفخر به، على جانب من الشاطىء (التاريخي) رست أعمدة متحف أرض اللبان تحفظ ما خلفته حضارة مرّت على حين ثراء من الزمان، حيث حمل البخور وسلك الحرير منطلقا وعابرا إلى قصور العالم ومعابده، ملكاته وأميراته.
وجدت آثار البليد من يحافظ عليها فبقيت..
ولم تجد آثار الجصّة من يشفع لها فتم التعامل معها على أنها أحجار متراكمة، مع أن الجصّة جارة للبحر كالبليد.. ولها علاقة بالتاريخ مثلها، لكن الظروف التي عرفتها شواهد البليد غابت عن آثار الجصة..
بعد مقال كتبته هنا لم أجد أي تعليق رسمي (وهذا ما أتوقعه بشكل طبيعي جدا).. لكن القراء كانت لهم مداخلاتهم، وأستشهد بمعلومات وردت حول المكان:
نشرت تفاصيل المشروع السياحي الذي سيقام هناك في صحيفة الاوبزيرفر (باللغة الإنجليزية) الصادرة يوم الأربعاء الموافق 5 نوفمبر 2008م.
وسيتم طمس هوية الموقع بالكامل مع العلم أن الموقع لا يضم فقط أثار قرية تراثية عمانية وإنما يضم أثارا أقدم من ذلك تعود للعصر الحجري الحديث 4000 قبل الميلاد وآثارا تعود للألف الثالث قبل الميلاد وأثار تعود للألف الأول قبل الميلاد وسيتم إزالتها بالكامل.
وسيحل محل تلك الآثار التاريخية فنادق وبحيرات، وسيبقى الحصن والجامع والمقابر الأثرية لتكون واجهات لهذه الفنادق..
الموقع متفرد بيئيا ويقال أنه محمية بها غزلان وطيور..
سيغلق الموقع بالكامل أمام المواطنين (كما حدث في أماكن أخرى) وسيسمح لمن لديه المال فقط، وما على المواطنين إلا ارتياد الحدائق فقط (إذا لم ير البعض خصخصتها).
من المعلومات التي وردتني (وأتمنى أن يصححها من لديهم الخبر اليقين) هي أن الحفريات الطارئة تسابق الوقت لتنتهي خلال ثلاث أسابيع فقط، وهي منطقة أثرية يفترض أن العمل بها يستلزم حرصا..
فمن يهمه الأمر نسأله: ما هي القصة الحقيقية لما سيكون في بر الجصة وما سيحدث في آثار تاريخية ستبقى فقط واجهات لفنادق شركات خاصة؟
ونسأل من يهمه الأمر: إذا كنا نمتلك خصوصية الحديث عن التراث والأصالة كل هذه السنين الطوال فهل آثار بر الجصة بعيدة عن تراثنا وأصالتنا، أم أن أمام سطوة رأس المال سنعتبر أمر المحافظة على التراث حكاية نلقمها الأفواه فيما الممارسات تسير باتجاه آخر؟!
ويا من يهمه الأمر نسألك، وبفم لا يعاني من تكدس الماء فيه: أليس وراء الأكمة ما وراءها لكي يحوّل مكان أثري إلى مشروع سياحي، وإذا كنّا لا نمتلك الحقيقة هنا فهل من مطّلع يقول لنا الحقيقة.. أو نصفها على الأقل.
لكن يبدو أنه لا أحد يهمه الأمر.. أمر آثار هذه البقعة، هي ليست الأولى التي تستباح أمام طوفان المصالح.. ولن تكون الأخيرة!!
أنشد معرفة حقيقة ما سيحدث هناك، كما أناشد معرفة ما وراء تلك اللهفة على تحويل الجصة من منطقة أثرية إلى مشروع لشركة سياحية.

تواطؤ ضد الحياة

في معادلة التواطؤ هناك مجموعة أطراف، بعضها يتفق على آخر، وهناك أيضا طرف يقدم خدمة مجانية للآخر، أكان بعلمه أم بجهله، فلا يمكن أن يكون هناك محتال إن لم يكن في المقابل شخص طيب أو ساذج تنطلي عليه الحيلة.
فمثلا.. يحذر البنك المركزي مرات عدة من عمليات احتيال تستهدف الناس في أموالهم، وبعد فترة يتم الإعلان عن وقوع حالات نصب على مجموعة من البشر، والغريب أن عدد الضحايا كبير جدا، رغم كل تلك التحذيرات.
حدث ذلك في الجمعيات التي كانت تنتشر في كل حارة عمانية ولها جباة يقومون (شهريا) بحصد الأموال مع (طلوع) الراتب فيما هناك من يترقب من عام إلى عام حلول دوره قبل (طلوع) الروح.. ولأن الأموال طلعت (ولم تعد) تأكدت المعادلة أن هؤلاء المستفيدين وجدوا تواطئا من الضحايا لاستكمال معادلة النصب.. والضحك على الذقون، أقصد (على اللحى) لأننا لا نستخدم مفردة ذقن في لهجتنا العمانية.
وتكرر حدوثه في المحافظ المالية، وأوهام مضاعفة الثروة، وعبر تلك الرسائل النصية والالكترونية التي تعرض نسبة من الملايين التي تركها (الراحل) ويجد ابنه أو حفيده مشكلة في الخروج بها من بلده فيتصل بصديق (مجهول) يعرض عليه مليون دولار أو أكثر، حسب الغنيمة.
يتواطأ المرء على نفسه أحيانا، يقدمها لقمة سائغة طمعا في العصافير التي على الشجرة، مع أن الشجرة وما عليها من حمام هي ديكورات بلاستيكية لا يمكن تبيّنها من بعيد، وتكون للناظر كالمسافر العابر للصحراء يحسب السراب ماء، حتى إذا سار إليه ابتعد عنه في تخوم الرمل المنبسط.
كثيرون فعلوها، تواطؤا على أنفسهم، ليس بأموالهم فقط، بعضهم ساقته أوهام الشفاء ليقدم أكثر من المال طلبا للعلاج، الغريب أن ذلك يحدث في عصر العلم، الأغرب أنها تحدث لمن نسميهم متعلمين.
يترك العلم بحثا عن الاحتيال والشعوذة، يصدق جاهلا لا حيلة له سوى البخور وطلاسم لا تضر أكثر مما تنفع..
ذلك الشاب وهو يتحدث بعفوية، يخبرني بأنه صارم في تعامله مع الجن عندما يحضرون إلى زوجته، (ما يفيد معهم إلا العصا).. كان يضرب زوجته (بالباكور) من أجل إخراج الجني، مع أن المستشفى يقول أنها تعاني من الصرع!!
يحدث ذلك في عام 2009، تواطؤ آخر من نوع معذب، مع الجهل ضد العلم، والضحية بشر هم الأقرب إلينا، الزوجة والابنة والأخت، هناك من لا يزال يبحث عن (البصّار) الذين يعملون جهارا نهارا دون أن يجرّمهم أحد، أليس هناك من يتولى حماية المجتمع قضائيا من المسيئين إليه؟!
حمايته من الذين يعتقلون حرية الحياة ويوزعون أوهام الثراء والشفاء، من المتواطئين فيما بينهم لترسيخ الجهل والتخلف.. من الأدعياء الذين يتواطئون مع قوى الشر ضد المجتمع وناسه، يبيعونه الأوهام، عبر شيكات لا رصيد لها أو عبر زجاجات دواء تقتل ولا تحيي؟!

تشاؤل أخير:صديق قديم انتقل للعمل دبلوماسيا في دولة أفريقية، يحاول الاتصال بي إلا أنني نسيت أمر الصديق وتذكرت أمور النصب والاحتيال عبر الهاتف النقال.. بعد أشهر تذكرت صديقي الدبلوماسي وأيقنت أنه اتصل مرارا لكن الأمر اختلط عليّ: بين فن الدبلوماسية وفن الاحتيال.

الشيخ سعيد

كان أنقى من قدرة الكلمات على وصف النقاء..
كان أصفى مما يمكن قوله عن إنسان يسير في الأرض كالمحبة الشفافة تدور في فلك الله.
.. وكان القدوة الصالحة يجتمع إليه أحبابه دوما، يجلسون إلى الرجل الذي قيل فيه أنه من أحب أن يرى أحدا من صحابة رسول الله فلينظر إلى هذا الشيخ الجليل.
وصفه الشيخ محمد بن راشد بن عزيز صاحب كتاب (شقائق النعمان) فقال عنه: رقى بفطنته وحسن ذكائه حتى استطاع أن ينظم الشعر، وهو مع ذلك كريم النفس والطبع، كثير الانبساط للإخوان، سخي سمح ولا غرو فإنه من بيت شرف ونجابة..
هو الشيخ سعيد بن حمد الحارثي..
وقد رحل عن دنيانا وكأنه الرحيل المفاجىء مع أن الموت قدر كل حي..
رحل الشيخ بذكر طيب لا يتمنى المرء أفضل مما تركه في نفوس الذين عرفوه، وأدركوا كم هو فاضل هذا العالم والفقيه والأديب.. والإنسان.
حينما كانت سبعينيات القرن الماضي تفيض نحو نهاياتها سمعت باسمه للمرة الأولى، كان يعمل في وزارة الأوقاف، السين الساكنة في بداية اسمه، والمهابة المتجلية وقارا حينما يقابل الناس (صغر شأنهم أم كبر) بتلك الروح الصافية.
دخلت على مكتبه في مجمع الوزارات مرات ومرات، كان العمر يخطو فوق العاشرة بقليل من السنوات، العاصمة كما يكتشفها طفل قادم من قريته المتوارية بين أودية وجبال، أمام هذا الشيخ الجليل وقفت أتأمل أي حضور له بين معارفه، استمعت إليه كما يجدر بتلميذ صغير يجلس إلى عالم كبير في معرفته وخلقه، وبعد أن تأذن ساعة الدوام الرسمية بالانتهاء كنا نسير إلى بيته الكائن في مطرح (مقابل بيت عمان) لنجد فوجا يشاركنا الغداء، فهو الكريم نفسا ومالا.
مرت السنوات تجرّ بعضها، لم يكف اسم الشيخ من الحضور إلى ذهني، زيارات والدي المتكررة له مع ذكريات تشريفه لنا في بيتنا السروري المتواضع، أذكر المرة التي منحني فيها ثقته أن أصلي به ومن حضر في المسجد جماعة، ارتبكت واسرعت في القراءة، وكان الشيخ نعم الموجّه والمربّي.
كل ذكرى تعظّم شأنه في قلب كل من أحبّه، تعرفه كل قرية في عمان، يعرف كل قرية فيها، وكان رحّالة طاف بلاد الدنيا، وله في رحلاته أراجيز طويلة، كنّا نقرؤها بإعجاب، وننتظر الإعجاب من الشيخ وهو يستمع لقراءتنا.
في عام 1982 كانت دعوته لوالدي بضرورة تسجيل أحدنا في معهد القضاء الشرعي حيث كان مديرا له، التبس عليّ الاسم، ظننته المعهد الإسلامي الثانوي، عزمت على الأمر، لكن الوادي الذي سال بقوة يومها حال دون الذهاب إلى (العاصمة) وفات موعد الاختبار والاختيار، لكن لم يفت موعد التواصل مع الشيخ بعد أن تقاعد.
قبل بضعة أشهر زرته في منزله ببوشر..
كأن الزمن لم يتغيّر به، ذات المهابة والصلاح على الوجه السمح، كان على كرسيه المتحرك يقاوم هجوم المرض عليه، دعانا للمكوث معه حتى موعد الغداء، سألته عن ركعتي السنة بعد صلاة الجمعة، قال أن الإمام لم يكن يصلي غير ركعتي الجمعة فقط، لم أسأله أي إمام كان يقصد، وودعت الشيخ ولم أدرك أنه قد يكون آخر عهدي به.
رحمك الله يا شيخنا، لا يزال لك العمر الذي يبقى، الذكر الطيب، العمر الثاني بذكرك الطيب وقد عرفناك به حيا، وسيبقى اسمك وبيتك وما علّمته تلاميذك من مناقب حميدة شاهدة عليك، النموذج الصالح وقد أنار الإيمان قلبه وترسخ بخلق رفيع وسماحة نفس تدفع المرء ليرى فيه الإسلام في جوهره ومظهره، فإلى جنان الخلد أيها السعيد بما نلت.. السعيد بما تركت.