السبت، 14 مارس 2009

شيخوخة الحناجر الذهبية

قبل أعوام أجريت مقابلة صحفية مطولة نشرت في صفحة كاملة مع المبدع الرائع حسين المحضار، امتد الحوار نحو ساعتين في غرفته بفندق جراند حياة، وكان رفيق الجلسة الفنان اليمني حسن سري، سالت صاحب المحضاريات عن الشيخوخة التي قد تصيب حناجر الفنانين، عبدالكريم عبدالقادر وأبوبكر سالم وغيرهم من الذين لم تعد لياقتهم (الصوتية) كما كانت تنثر الحنين والشجن فنستشعرها فور أن نسمع المفردات الأولى على سلمها الموسيقي.
سألته عن محمد عبده، رد بأنه كان جلسات السمر بمدينة جدة السعودية يجلس فتى صغير يسمى محمد عبده، كبر الفتى وصار فنان العرب، وأهم ما فيه أن صوته لم تبلغه الشيخوخة، بقي صافيا كنهر منساب، كما هو صوت الرائعة فيروز، له حزنه وشجنه وحنينه، كأننا قبائل من العشاق، وكأننا نعيش كل لحظة قصة عشق مكتوبة بماء الورد.
هناك أصوات عرفناها بما هي عليه من قوة وجمال جبلي قادم كشلال ماء، وديع الصافي وصباح فخري، هذا الذي غنى أكثر من نصف يوم بشكل متواصل ولم يفت الوقت من قوة الحنجرة الصعبة التي لا تكون سوى لصباح فخري، تخطى الثمانين ولم يزل قويا كأنه ابن الثلاثين يعبث بأوتار قلوب من في القاعة ببيت من الشعر يترنم به عشرات المرات، فلا هو يتعب ولا الجمهور (الذواق) يرتوي.
مثل هذه الأصوات تدفعنا للسماع..
كنت لا أهتم باي شريط جديد يصدره أبوبكر سالم، بل معني بأقدم شريط له، حينما كان الصوت لا يخدش شرايين القلب قبل أن يجرح طبلة الأذن، ولم يصل إلى مرحلة الغناء لمن يقشر الموز!!
قبل أيام أسعدني خبر اعتزال أبوبكر لأسباب صحية، قلت يكفيه هذا الفقيه ما أحرزه من مكانة لن يصل إليها إلا النادرون في عالم الغناء الخليجي على الأخص، واليمني إن تذكرنا ما قدمه هذا الفنان من خدمات عظيمة للموروث الموسيقي اليماني المعروف في سائر أرجاء اليمن السعيد، وشكل أبوبكر مع رفيق دربه حسين المحضار نقطتا ضوء هائلتين أخرجتا الكنوز الفنية من صناديقها القديمة وباتت تمخر عباب الخليج من الضفة إلى الضفة المقابلة، ووصلت إلى أرجاء العالم لتقول أن هذا الفن اليماني ساحر حد الدهشة.
استعاد أبوبكر لياقته الصحية وقال أن خبر الاعتزال غير صحيح، وأنه يحضر لعمل فني سيعيده إلى الاستوديوهات لتسجيله، إلم يكفه هذا العملاق تلك الرحلة المدهشة ويصر على معاندة تعبه ومرضه بما يسلبه من رصيد له بين أجيال أبناء الخليج؟!
الفنان الآخر هو عبدالكريم عبدالقادر، صوت الحزن، ورفيق المتعبين في ليل آلامهم وقد فارقوا حبيبا غدر، وعشاقا انتظروا معشوقاتهم فلم يحضرن فيما أزف الموعد وربما فات.. حكايات رسمها (أبوخالد) بصوته عن الحزاني والمتعبين والمحرومين ممن (تولهوا) عليهم، اختفى الصوت الجريح بعد أن قدم ألبومات لم تكن في مستوى قديمه، لكنه وكما قال في حديث تلفزيوني أنه يغني ليجد ما يعيش به، وهو الفنان الحقيقي الذي لم يحول الأغنية إلى راقصة في ليل السكارى، بل ابتلت بدموع المعذبين بالحب، انسابت حائرة كدمعتهم على وسائد القلق والأرق.. أتذكرهن وداعية.. للصبر آخر.. غريب.. باختصار.. تأخرت، والموسيقى التي تكتب الكلمات لهن ولعشرات الأغنيات تقطع من ندى أزهار البنفسج وادعة وحزينة..
في تلك المرحلة المتقدمة من العمر لم نكن عشاقا لكن عبدالكريم أقنعنا بأن ثمة حبيب لنا علينا أن نغني من أجله وقد فارقناه، ولم يكن لدينا ما يستدعي حالة قيس بن الملوح لكن عبدالكريم ألهب عاطفتنا وقال لنا أن كل منكم لديه ليلاه وعليه أن يبكيها..
لكنني شعرت بأن حنجرة هذا الشيخ الحزين تغيرت، الكلمات تخرج عاجزة عن أن تكون هي ذاتها التي ذوبتنا في شاي الحزن كقطعة سكر فاض بها دمع عاشق.
وحده الفتي الذهبي الذي كان يجلس على زاوية في جلسات السمر المحضارية باق على روعته، ليته لا يتوقف، وليت حنجرته لا تشيخ.. وأتذكرها يا نسيم الصباح وقد كانت تأتينا من راديو عتيق، كأنها المسافة لم تكن عشرات السنين بينها والأماكن، رائعة محمد عبده الأخيرة، كأنها العلامة الدالة على أنه مطرب لا يتكرر.. أبدا.

هناك تعليق واحد:

  1. كم هي رائعة كتاباتك ياستاذي القدير ،، تتحفنا دائماً تجعلنا نكسر حاجز الصمت لنقف عالياً نقولها باعلى الصوت كم انت رائع،،

    اتمنى لك دوام التوفيق وان تظل علماً من اعلام عمان تنثر ادبك ليصل الى الاقاصي



    طابت ايامك كلها بخير ودمت رمزاً للخير


    مع خالص تحياتي
    عاشق مسقط
    www.alhosanilaw.net
    http://muscatlover.blogspot.com/

    ردحذف