الأحد، 12 أبريل 2009

الشيخ سعيد

كان أنقى من قدرة الكلمات على وصف النقاء..
كان أصفى مما يمكن قوله عن إنسان يسير في الأرض كالمحبة الشفافة تدور في فلك الله.
.. وكان القدوة الصالحة يجتمع إليه أحبابه دوما، يجلسون إلى الرجل الذي قيل فيه أنه من أحب أن يرى أحدا من صحابة رسول الله فلينظر إلى هذا الشيخ الجليل.
وصفه الشيخ محمد بن راشد بن عزيز صاحب كتاب (شقائق النعمان) فقال عنه: رقى بفطنته وحسن ذكائه حتى استطاع أن ينظم الشعر، وهو مع ذلك كريم النفس والطبع، كثير الانبساط للإخوان، سخي سمح ولا غرو فإنه من بيت شرف ونجابة..
هو الشيخ سعيد بن حمد الحارثي..
وقد رحل عن دنيانا وكأنه الرحيل المفاجىء مع أن الموت قدر كل حي..
رحل الشيخ بذكر طيب لا يتمنى المرء أفضل مما تركه في نفوس الذين عرفوه، وأدركوا كم هو فاضل هذا العالم والفقيه والأديب.. والإنسان.
حينما كانت سبعينيات القرن الماضي تفيض نحو نهاياتها سمعت باسمه للمرة الأولى، كان يعمل في وزارة الأوقاف، السين الساكنة في بداية اسمه، والمهابة المتجلية وقارا حينما يقابل الناس (صغر شأنهم أم كبر) بتلك الروح الصافية.
دخلت على مكتبه في مجمع الوزارات مرات ومرات، كان العمر يخطو فوق العاشرة بقليل من السنوات، العاصمة كما يكتشفها طفل قادم من قريته المتوارية بين أودية وجبال، أمام هذا الشيخ الجليل وقفت أتأمل أي حضور له بين معارفه، استمعت إليه كما يجدر بتلميذ صغير يجلس إلى عالم كبير في معرفته وخلقه، وبعد أن تأذن ساعة الدوام الرسمية بالانتهاء كنا نسير إلى بيته الكائن في مطرح (مقابل بيت عمان) لنجد فوجا يشاركنا الغداء، فهو الكريم نفسا ومالا.
مرت السنوات تجرّ بعضها، لم يكف اسم الشيخ من الحضور إلى ذهني، زيارات والدي المتكررة له مع ذكريات تشريفه لنا في بيتنا السروري المتواضع، أذكر المرة التي منحني فيها ثقته أن أصلي به ومن حضر في المسجد جماعة، ارتبكت واسرعت في القراءة، وكان الشيخ نعم الموجّه والمربّي.
كل ذكرى تعظّم شأنه في قلب كل من أحبّه، تعرفه كل قرية في عمان، يعرف كل قرية فيها، وكان رحّالة طاف بلاد الدنيا، وله في رحلاته أراجيز طويلة، كنّا نقرؤها بإعجاب، وننتظر الإعجاب من الشيخ وهو يستمع لقراءتنا.
في عام 1982 كانت دعوته لوالدي بضرورة تسجيل أحدنا في معهد القضاء الشرعي حيث كان مديرا له، التبس عليّ الاسم، ظننته المعهد الإسلامي الثانوي، عزمت على الأمر، لكن الوادي الذي سال بقوة يومها حال دون الذهاب إلى (العاصمة) وفات موعد الاختبار والاختيار، لكن لم يفت موعد التواصل مع الشيخ بعد أن تقاعد.
قبل بضعة أشهر زرته في منزله ببوشر..
كأن الزمن لم يتغيّر به، ذات المهابة والصلاح على الوجه السمح، كان على كرسيه المتحرك يقاوم هجوم المرض عليه، دعانا للمكوث معه حتى موعد الغداء، سألته عن ركعتي السنة بعد صلاة الجمعة، قال أن الإمام لم يكن يصلي غير ركعتي الجمعة فقط، لم أسأله أي إمام كان يقصد، وودعت الشيخ ولم أدرك أنه قد يكون آخر عهدي به.
رحمك الله يا شيخنا، لا يزال لك العمر الذي يبقى، الذكر الطيب، العمر الثاني بذكرك الطيب وقد عرفناك به حيا، وسيبقى اسمك وبيتك وما علّمته تلاميذك من مناقب حميدة شاهدة عليك، النموذج الصالح وقد أنار الإيمان قلبه وترسخ بخلق رفيع وسماحة نفس تدفع المرء ليرى فيه الإسلام في جوهره ومظهره، فإلى جنان الخلد أيها السعيد بما نلت.. السعيد بما تركت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق